ثلاثة أيام في الزاوية الكبرى بفاس (الشيخ محمد الحافظ المصري)

ثلاثاء, 07/28/2015 - 11:49
صورة ضريخ الشيخ التجاني رضي الله عنه

ثلاثة أيام في زاوية سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه

فاس-المغرب

فضيلة العارف بالله تعالى سيدي الشيخ/محمد الحافظ التجاني المصرى؛ رمضان1356م

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، اللهم صل على سيدنا محمد الفاتح الخاتم، وآله ومن والاه.

سادتي الأحباب حفظكم الله جميعا، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...

أكتب إليكم ونحن في جوار شيخنا رضي الله عنه، وضيافته ظاهرا وباطنا، وقد أكرمنا الله فوق ما كنا نرجو ونحب، ويسر الله الأمور تيسيرا عجيبا.

وقد اجتمعنا في مراكش بسيدنا الشيخ النظيفي، وهو رجل كأنه في الدار الآخرة، لا يخرج من خلوته إلا في أوقات الصلوات فيصلي بالناس ثم يدخل مباشرة، إلا بعد العصر فإنه يقرأ الوظيفة ثم يدخل خلوته، ويقرأ مع الأحباب الوظيفة بعد المغرب – مباشرة- مرة أخرى.

ثم يخرج من خلوته فيجلس في الزاوية، وينكب عليه الأحباب بين طالب للدعاء، وبين طالب للتجديد، ومستفهم عن مسائل، حتى تجب العشاء فيصلي بالناس ويدخل، وكلما سلم أحد عليه أعطاه تمرا من كومة من التمر وضعها بجواره.

وزرنا الفقيه الكنسوسي في قبره، وقد رأى الشيخ رضي الله عنه، ولكنه أخذ عن أصحابه، واجتمعنا بسيدي عمار بن سيدي محمود بن سيدنا رضي الله عنه.

وسافرنا إلى دمنات وهي بلد جبلية، وفيها نهير ويكسوها الزرع، فمنظرها بهي جميل، فزرنا الفقيه الحجوجي.

 ثم عدنا لمراكش ومنها إلى السطات، زرنا سيدي أحمد سكيرج، وهو يدعو لكم بخير، وأقمنا عنده ثلاثة أيام بعد رجوعنا من مراكش، كما أقمنا عنده أربعة أيام قبل السفر إليها، وهو بخير شفانا الله وإياه.

ثم سافرنا إلى الدار البيضاء، وهي ميناء على شاطئ المحيط، وهى منتهى أفريقيا ومنتهى بلاد المغرب، فمكثنا بها أسبوعا.

ثم سافرنا إلى الرباط وتعتبر العاصمة - رباط الفتح- حيث سيدي العربي بن السائح مؤلف بغية المستفيد، وإذا قيل هنا: سيدنا، السيد لا تطلق إلا على سيدي العربي، وإذا قيل: الفقيه، لا تطلق إلا على الفقيه الكنسوسي، وإذا قيل: المقدم، لا تطلق إلا على سيدي محمد بن قاسم بصرى المكناسي.

وقد أكرمنا الله - ولله الحمد والمنة - وشرح ذلك يطول، ومنه أن سيدي العربي رضي الله عنه جاء في الرؤيا لأكبر التجانيين بالرباط – وهو تلميذه، وقد خدم الفقيه الكنسوسي سنتين في داره وهو صغير، وقد صحب سيدي العربي 16 سنة - وقد جاوز المائة، وكان عنده كأس سيدي العربي الذي يشرب فيه الشاي، فأمره أن يعطيه إلي، ففعل، فالحمد لله على ذلك، وقد ذكرتكم في المواطن التي أرجو أن تكون من خير المواطن، إن شاء الله تعالى.

ثم سافرنا إلى سيدي قاسم، ثم مكناس، ثم عدنا إلى فاس في يوم الجمعة المبارك في أول رمضان، فحضرنا الهيللة في الزاوية المباركة، حيث نزلنا في حجرة فيها- هي الحجرة التي كنا فيها من قبل- والزاوية ملأى بأولياء الله السادة التجانيين ذوي القلوب النقية، الذين تنطق آثار التقى على ظواهرهم، وتكسوهم الأنوار الحقية والنفوس الطاهرة الراضية المرضية، يجتمعون من النواحي البعيدة النائية على الحب في الله، وعلى ذكر الله تبارك وتعالى

هؤلاء هم القوم الذين لا يشقى بهم جليسهم، هؤلاء هم القوم الذين قلوبهم معلقة بالمساجد

  أي نور وأي تقوى وفضل      وبهاء وروعة وسنــــــــــــــــــاء

  وجلال وبهجة وكمال       فيك يا دار الهدى والشفاء

الحال هنا في الزاوية السامية، لا يشعر العبد إن كان في الملك أو الملكوت، قلوب نيرة، وأرواح مقدسة طاهرة، وصورة كاملة للإسلام في الصدر الأول.

  يصلي الأحباب الصبح في الزاوية، فتمتلئ على سعتها، وبعد ختام الصلاة تقرأ الوظيفة، ثم يقرأ مولانا الشيخ محمد بن عبد الله أحد مشهوري علماء فاس، وهو علامة في المعقول والمنقول ـ مع إتقانه للقراءات العشر وهي مما يدرسه ـ يقرأ الشفاء في الزاوية ، فيحضر من شاء، وينصرف من شاء لعمله، فإذا انتهى من الدرس شرع جماعة في قراءة جزء من القرآن جماعة بصوت واحد، ومن الأحباب من يقرأ، ومنهم من يستمع، فإذا ختموه انصرف من شاء لعمله، وبقي من يحب أن يذكر الله في الزاوية.

وقبل الظهر يبدأ العلامة الفقيه الحاج الحسن مزُّور في قراءة درس في الشمائل المحمدية، وهو العلامة الفاضل ذو الفهم والحفظ وحسن الأداء والمحاضرة، ثم نصلي صلاة الظهر ،ثم يقرؤون جزءا ً من القرآن جماعة  بصوت واحد.

 ثم يصلي العصر، ثم يقرؤون هذا الجزء مرة أخرى ،ثم يقرؤون أورادهم ،ثم ينصرف من يريد الانصراف ويبقى من يبقى، ويحضر من يحضر لصلاة المغرب، فيفطرون على ما يتيسر، ثم يصلون وينصرفون.

 ويجتمعون في صلاة العشاء، فتزدحم الزاوية، ويصلي الفقيه الشريف سيدي محمد بن العابد العراقي صلاة العشاء، وصلاته متقنة تشبه صلاة الصحابة وصلاة الشيخ رضي الله عنه، ومقدارها في الصلاة الرباعية عشر دقائق، ثم يبدأ في صلاة التراويح، فيصلي الإمام الراتب سيدي العابد عشر ركعات، يقرأ في كل ركعة نصف ربع، فيختم التراويح ويكون قد قرأ جزءاً ونصف، ثم يعودون إلى دورهم، ويبقى من أحب ممن يرغب في عبادة ربه، ولا تقوم في الليل في أي وقت من الأوقات إلا أصبت من توجه إلى ربه خاشعاً مخبتاً ضارعا

وقبل الفجر يأتي ذلك المدرس الشيخ محمد بن عبد الله، وسنه يغلب على السبعين – وهو نحيف البدن ضعيفه إلا أنه قوي في الله – فيقف في المحراب يصلي ويقرأ، ويعلوه الجلال والخشوع والإخبات لله تبارك وتعالى، يمثل العبد الفاني في الله أصدق فناء، وليتني أستطيع أن أري أحبابنا منظر ذلك الرجل المتحطم وهو يحمل نفسه على القيام في حضرة الله عز وجل، والإخلاص يتدفق من قلبه الطاهر، وكل عضو من أعضائه الضعيفة لسان ناطق بأبدع بيان، يمثل للناس تجرد الروح عن المادة، وكيف يسمو الحق بأهله وهم بين أهل هذه الأرض المتقاتلين على الزائل الذاهب، فيلحق أهل الحق المخلصين الصادقين بالملأ الأعلى، حيث الأنس مبعث الراحة، حيث الشهود، حيث ثلج اليقين.

 ثم يوترون وها طلع الصبح، فيعودون إلى ما كانوا فيه من ذكر وقراءة قرآن ومذاكرة، ولا تظن أنهم تركوا الدنيا، فأهل فاس قائمون بالجد في الدين والدنيا معا، هذه حياتهم، وهذا حالهم، رضي الله عنهم.

وفي ليلة السابع والعشرين يبدأ الفقيه العابد في القيام بأول القرآن، ثم ينوب عنه غيره، وغيره، والشيخ محمد عبد الله، وغيره طول الليل حتى يختموا القرآن من أوله إلى آخره في تلك الليلة، فيختم مولانا الشيخ محمد بن عبد الله الصلاة بحزب سبح اسم ربك الأعلى بقراءة سيدنا حمزة، ثم يوترون.

أما مقدم الزاوية سيدي الطيب السفياني – فقد أشرف على المائة – يأتي من داره قبل الفجر، يتوكأ على أحد أصحابه، يتقدمه النور كأنه كوكب ذري، فيصلي ما شاء الله، ثم ينتظر الصبح، فيصلي مع الجماعة، ثم يجلس مقابلا للشيخ محمد بن عبد الله، ثم يذكر ما شاء الله أن يذكر، وقد فهمت منه أن من أوراده ألفا من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم – صلاة الفاتح – صباحا، وألفا مساء، وذلك أن الشيخ رضي الله عنه قال لجده: " ألتمس لي عشرة أنت منهم وسيدي أبو يعزى بن سيدي الحاج علي حرازم، وليقرأوا ألفا من الفاتح صباحا وألفا مساء، ومائة من الفاتحة وتقرأ نهارا فحسب، وألفا من يا لطيف ".

وحدثني أن والده سيدي أحمد – وقد رأى الشيخ رضي الله عنه – ورثها عن أبيه، وقد ورثها سيدي الطيب كذلك عن والده – رضي الله عنهم – وهذا هو الميراث الخالد لا الميراث الزائل.

وبعد صلاة الضحى يمضي إلى داره، ثم يعود قبل الظهر، فيستمع درس الفقيه سيدي الحاج الحسن مزّور، وينتظر الصلاة، ثم يذكر ما شاء الله أن يذكر بعد الصلاة إلى العصر، فيصلي، ثم يختم ورده ، ويعود إلى داره، ويرجع قبل العشاء إلى الزاوية.

وقد حادثته يوما حتى أذنت العشاء، فقال لي: أخرتني عن ورد كنت أذكره، فقلت له: فلتذكره بعد ذلك، فقال: إن أوقاتي مشغولة ولي أوراد أخرى مقسمة على الأوقات، وإن الزمن أضيق من أن يتركه الإنسان خاليا، ولذلك فرقت ما قسم الله لي من العبادة على الزمن، فليس لدي وقت غير مشغول، فأسفت لذلك، فقال لي: نب عني أنت في ذكره، وهو بسم الله الرحمان الرحيم 800 ويا لطيف ألفا، ومرة أخرى تحادثت معه في الضحى فقال لي: عليك أن تذكر ما عطلتني عن ذكره، وهو ساعة ونصف تقرأ فيها صلاة الفاتح. ويصلي العشاء والقيام – ذلك القيام الطويل، القيام الذي يصليه سيدي الفقيه ابن العابد – ثم يمضي لداره بسلام حيث يشتغل فيها بربه تبارك وتعالى.

وولده سيدي الغالي وارث الأخلاق المحمدية، الفضل والحلم والأدب والتؤدة وألسمت الحسن، إذا مشى يتقدمه النور، وإذا جلس يعلوه النور، المحب الفاني في الحضرة الخاصة، ولا يقرأ أوراده إلا مختليا بعيدا عن الخلق، وهو ذو تجارة من الذين قال الله تعالى فيهم: " لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة " ، لا يؤذن الوقت إلا وتراه قد حضر للصلاة في الزاوية، وهو القائم الآن بشؤون الزاوية،وهو خليفة سيدنا سيد الطيب خليفة الشيخ رضي الله عنه، ويجلس بجوار سيدي الطيب في الوظيفة الشريف سيدي محمد بن سيدي الطاهر بن المتوكل، وقد أدرك والده الشيخ رضي الله عنه، ولم يأخذ عنه، ولكن أخذ عن أصحابه، وكان إماما للزاوية قبل الفقيه العابد، وقد بلغ مائة سنة وعشرا، وكان الفقيه العابد يحمله على أكتافه من داره إلى الزاوية، ثم يساعده على القيام في الصلاة، فإذا شرع في الصلاة صلى بغير حاجة إلى من يعينه مادام في الصلاة.

وهنا كل فرد محتاج في الكتابة إلى إفاضة، فكلهم لله الحمد بدور، وكلهم ولله الحمد مصب الفيض الرباني ومهبط الفضل الرحماني، هم من الذين قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم: (الذين إذا رُؤوا ذكر لله )، ولا أدري كيف أستطيع أن أفارق الزاوية، فإن ما نحن فيه نعيم وأي نعيم، ولله الحمد.

إننا نقيم في الزاوية نسلم على شيخنا رضي الله عنه ليلا ونهارا، ونشهد أنواره، ونسأل الله لنا ولكم، ونزور نيابة عنكم، ونذكركم بالخير، والأحباب يدعون لكم في الزاوية الرحبة، في الزاوية النورانية، في الزاوية المقدسة نقيم والحمد لله.

إذا أردت أن تذهب إلى دور المياه تمر في نهير صغير من الماء تخوض فيه، ثم تذهب إلى بيت الخلاء حافيا، والأرض كلها مرصوفة بالفسيفساء اللماعة، ويسمونه هنا الزليج، وهو أغلى من البلاط، وشكله كشكل الأطباق الصيني، والمسجد كله رصفت أرضه به وجوانب الحائط ونصف السواري الذي يلي الأرض على صورة مربعات،وعليه صور ونقوش بديعة.

أما المياه فإن بعد الفناء المرصوف المتصل بالحائط حوضين مستطيلين فيهما 16 ماسورة كبيرة تصب كلها في هذين الحوضين، وعلى الأحواض جرادل من خشب يملؤها المتوضئ من الحوضين، ثم يجلس على كرسي يتوضأ منها، والماء متدفق من تلك المواسير ليلا ونهارا، فيصب في هذين الحوضين،وخلف الحائط ـ بعد أن تمر بالفناء الصغير الذي يجري ماؤها باستمرار ليلا ونهاراـ تجد حوضين آخرين فيهما عشر مواسير، وكذلك في بيوت الخلاء، في كل بيت منها ماسورة يتدفق منها الماء دائما، والزاوية تنار بالكهرباء طول الليل.

وكأن الحق تبارك وتعالى أراد أن يجعل هذه الزاوية المقدسة دائمة الفيض بالمياء الطاهرة، دائمة النور بالأنوار الظاهرة، إشارة يفهمها الحكيم إلى أن إفاضة الأنوار القدسية والماء الرباني لن يزال ينبع منها، ويفيض ليلا ونهارا بغير انقطاع، رضي الله عن سيدنا، ما أوسع الفضل الذي منحه الله إياه.

هل تظنون أن تلك النفوس التي زكاها الحق واصطفاها تسمع بذلك البعوض المنتفخ الذي يطن بافتراء على سبيل المتقين المقربين السابقين، كزعمهم فيهم تفضيل غير القرآن عليه، والكتمان؟ وهم منه براء. وهم في واد، والناس في واد، شغلهم الله به، ثم برسوله، ودينه، فذكروا الله، وعبدوا الله، واشتغلوا بمعاشهم لله، وحسن رجاؤهم في الله، فهم أهل الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

 ذلك مجمل من  حال الزاوية وأهل الزاوية.

وقد أمرني سيدي الطيب رضي الله عنه أن أقرأ درسا في الزاوية، وقد قرأنا الأربعين حديثا النووية بعد قراءة الحزب بعد صلاة الظهر، وسنختمها إن شاء الله تعالى اليوم، يوم الخميس 21 رمضان  1356هـ، بعد صلاة الصبح وقراءة الوظيفة.

والحمد لله رب العالمين قد حضرنا زواج سيدنا سيدي عمار بن سيدي محمود بن سيدي البشير حفيد شيخنا رضي الله عنه، وهو آية في النورانية يمشي، فكل من رآه رأى جمال النبوة يسطع في وجهه. والحمد لله رب العالمين

      

محمد الحافظ التجاني المصري