التكفير مفهومه و أخطاره و ضوابطه

ثلاثاء, 08/25/2015 - 13:59

بسم الله الرحمن الرحيم

        وصلى الله على سيدنا محمد الفاتح الخاتم الناصر الهادي وعلى آله حق قدره ومقداره العظيم

 

التكفير مفهومه و أخطاره و ضوابطه

 

إن الحمد لله نحمده و نشكره و نستهديه و نستغفره و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و من سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له و من يضلل فلا هادي له و اشهد ألا إله إلا الله و أشهد أن محمدآ عبده و رسوله .
اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك و من الأمل إلا فيك و من التسليم إلا لك و من التفويض إلا إليك و من التوكل إلا عليك و من الرضا إلا عنك و من الطلب إلا منك و من الذل إلا في طاعتك و من الصبر إلا على بابك و من الرجاء إلا في يديك الكريمتين و من الرهبة إلا بجلالك العظيم .
إن تكفير أي إنسان أو اتهامه بالفسق و الضلال و الإنحراف أو النفاق يجرده عمليآ من حقوقه الإنسانية و يعرضه للإهانة و القتل و الطرد من المجتمع , و إذا اتخذت عملية التكفير طابعآ جماعيآ، و شملت جماعة أو طائفة فإنها تعرض المجتمع الإسلامي إلى الفرقة و الإختلاف , و إذا انهارت الرابطة الدينية فلا مجال لتعويضها  بأي شيئ آخر .
وإدراكآ من الإسلام لخطورة عملية التكفير فقد دعا إلى إحترام هوية كل من يتشهد الشهادتين و يلتزم بأركان الدين وعدم التشكيك في إسلام من يعلن إسلامه حتى في ساحات القتال و تحت بريق السيوف , حيث قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) وعندما حدثت الفتنة الأولى بين المسلمين و نشبت بينهم الحروب رفض سيدنا علي رضي الله عنه أن يتهم خصومه بالكفر و النفاق و قال: كما نقل بن كثير في البداية و النهاية (إخواننا بغوا علينا).
و مع ذلك فإن الإمة الإسلامية قديمآ و حديثآ لم تسلم من داء التكفير, وقد تعرض الإمام علي رضي الله عنه نفسه إلى عملية التكفير من قبل الخوارج الذين رفضوا التحكيم بينه و معاوية . و بالرغم من أن مأخذهم لم يكن يتعدى الإجتهاد السياسي إلا أنهم أضفوا عليه صفة الكفر و الإيمان , و ذهبوا إلى حد شق وحدة الأمة المسلمة و إعلان الحرب على المسلمين .
و منذ ذلك الحين استمرت ظاهرة التكفير في المجتمع الإسلامي , و كانت تنتشر و تستعر أحيانآ و تتقلص و تخبو أحيانآ أخرى , فبينما كانت الحروب الداخلية و الظروف الإقتصادية السيئة تؤججها , كانت أجواء السلام و الرخاء تطفئها و تقضي عليها .
و هذه الظاهرة - ظاهرة التكفير - في معظم الأحوال كانت تستند إلى تأويلات تعسفية و أقاويل و شواهد ضعيفة و فتاوى عاطفية و مواقف نفسية.
و إذا لم تكن عملية التكفير صارخة و صريحة أحيانآ , فإنها كانت تقترب من ذلك أحيانآ أخرى, حيث تنسب كل جهة إلى نفسها الصواب المطلق و الرشد التام و معرفة الإسلام الحق , في حين تتهم الطوائف الأخرى بالفسق و الضلال , و ذلك إستنادآ إلى تفسير خاطئ لحديث من أحاديث النبي صلى الله عليه و سلم و هو إفتراق الأمة الإسلامية إلى ثلاث و سبعين أو إثنتين و سبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة , مما كان ينعكس سلبآ على علاقة كل فريق بالآخر , و يؤدي إلى تصور كل فرقة أنها هي الناجية الوحيدة فتعامل الأخرين و كأنهم من أهل النار .
و قد عرفت الأمة الإسلامية الحديثة منذ أواسط القرن الماضي حركات تكفير عديدة بداية من جماعة التكفير و الهجرة التي ظهرت في سجون مصر نتيجة التعذيب الشنيع الذي كانوا يتعرضون له و هذا التعذيب كان مُبرِرآ و دافعآ لهم كي يكفروا المجتمع بأكمله و إنتهاءً بالمجموعات التكفيرية التي ظهرت أخيرآ كتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام المعروف اختصار بـ:"داعش" و التي كانت تتهم المجتمع الإسلامي بالجاهلية والردة والكفر لإنه يخضع لأنظمة لا تطبق الشريعة الإسلامية .
من هذه المنطلقات آنفة الذكر كان لزامآ علينا علاج هذا الفكر المنحرف و المُعْوَج وذلك بالحوار و الإقناع و إقامة الحجة و الدليل. 
 ويعود سبب إختيار هذا الموضوع لعدة أمور :
أولها :-
أن هذه الفتنة العظيمة - فتنة التكفير - التي مزقت جسد الأمة الإسلامية هي أول البدع والفتن ظهورآ في الإسلام أي بمعنى أنها منبع لكثير من الإنحرافات العقائدية و السلوكية و الخلقية و النفسية التي عانت منها الأمة.

وقد بدأ ظهور هذه البدع من العهد النبوي حيث قال  ذو الخويصرة التميمي للنبي صلى الله عليه وسلم : إعدل فإنك لم تعدل , حتى قال له المصطفى عليه الصلاة و السلام ( و يلك ! و من يعدل إذا لم أعدل ؟ لقد خبتُ و خسرت إن لم أعدل ) . فقوله : فإنك لم تعدل جعل منه لفعل النبي صلى الله عليه و سلم سفها و ترك عدل , و قوله : اعدل أمر له لما أعتقده هو حسنة من القسمة التي لا تصلح , و هذا الوصف تشترك فيه البدع المخالفة للسنة , فقائلها لا بد أن يثبت ما نفته السنة , أو ينفي ما أثبتته السنة , و يحسن ما قبحته السنة , أو يقبح ما حسنت السنة .
.
و قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى : ": صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه. و قد خرجها مسلم في صحيحه, و خرج البخاري طائفة منها. قال النبي صلى الله عليه و سلم "يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم, و صيامه مع صيامهم و قراءته مع قراءتهم, يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم, يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية –و في رواية- يقتلون أهل الإسلام و يدعون أهل الأوثان".
وثانيها: 
أن ظاهر تمسكهم بالدين يوهم عموم الناس , و من لا فقه له بأنهم أحق الناس بالدين , و بالإسلام , و هم في الحقيقة على غير ذلك . ولذلك فهم يشتبهون على كثير من الناس . كما سئل على بن أبي طالب رضي الله عنه : أكفار هم ؟ قال من الكفر فروا. فقيل : فمنافقون هم ؟ قال : إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلآ , و هم يذكرون الله بكرة و أصيلآ . قيل : من هم ؟ قال : قوم أصابتهم فتنة فعموا و صموا .
و قال ابن عمر رضي الله عنهما : هم شرار الخلق , و قال : إنهم إنطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين. 
وثالثها :
أنهم فارقوا جماعة المسلمين و أئمتهم و ذلك بخروجهم عن السنة , و جعلهم ما ليس بسيئة سيئة أو ما ليس بحسنة حسنة , و الخوارج جوزوا على النبي صلى الله عليه و سلم نفسه أن يجور و يضل في سنته , و لم يوجبوا طاعته و متابعته , و إنما صدقوه فيما بلغه من القرآن دون ما شرعه من السنة التي تخالف بزعمهم ظاهر القرآن.

ورابعها :
إستفحال و إنتشار هذه الظاهرة الشاذة و تسللها إلى مجتمعنا بفئاته و شرائحه المختلفة يحتم علينا أن تكون لنا وقفة مساهمة بنقاش مثل هذه المواضيع التي تعالج مثل هذه القضايا الخطيرة و توضح لكل مسلم أنه يجب عليه ألا يتعجل في إطلاق تعابير التكفير و التفسيق على المعنيين أو الجماعات حتى يتأكد من وجود جميع أسباب الحكم عليهم بالكفر و انتفاء جميع موانع التكفير في حقهم و هذا يجعل مسألة التكفير من مسائل الإجتهاد التي لا يَحكُم فيها بالكفر على شخص أو جماعة إلا العلماء الذين بلغوا مرتبة الإجتهاد لأن الحكم على المسلم بالكفر و هو لا يستحقه ذنب عظيم , لأنه حكم عليه بالخروج من ملة الإسلام , و أنه حلال الدم و المال , و حكم عليه بالخلود في النار إن مات على ذلك , و لذلك ورد الوعيد الشديد في شأن من يحكم على مسلم بالكفر , و هو ليس كذلك , و قد ثبت عند البخاري عن أبي ذر قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : " لا يرمي رجل رجلآ بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك ".
وهذا يدفعنا إلى تعريف أسباب التكفير وبيان ما يكفر به مما لا يكفر به لكي لا يقدم مسلم على إطلاق هذه التهمة العظيمة دون معرفة حقيقتها.
ويمكننا أن نلخص أسباب انتشار ظاهرة التكفير الحديثة فيمايلي: 
1ـ الجهل الذريع، وربما الجهل المركب ب معرفة الكفر في موارد أدلة الوحي الشريف.
2ـ اتباع الهوى، والأغراض النفسية في تكفير المخالف وذمه والقدح في عرضه بالكفر دون تبصّر بالعلم، وتورّع بالديانة.
3ـ اتباع المذاهب البدعية، والأقوال الشاذة، وتقليد الأصاغر في العلم والدين في إطلاق الكفر على الدول والمجتمعات والأفراد.
4ـ الاستهانة بمحارم الله وأحكام شرعه، وعدم الأخذ على يد المكابر والمعلن الكفر، وأطره على الحق أطراً بقوة البرهان والسلطان! إلى غير ذلك من الأسباب، مع الأخذ في الاعتبار أن كل سبب من هذه الأسباب يحتاج إلى بسط في العرض والتحليل وضرب الأمثلة والتدليل..إلخ.
5.إنتشار الكفر والردة الحقيقية جهرة في مجتمعاتنا الإسلامية، واستطالة أصحابها وتبجحهم بباطلهم، واستخدامهم أجهزة الإعلام وغيرها لنشر كفرياتهم على جماهير المسلمين دون أن يجدوا من يزجرهم أو يردهم عن ضلالهم وغيهم.
6. قلة بضاعة هؤلاء الشبان الغيورين من فقه الإسلام وأصوله، وعدم تعمقهم في العلوم الإسلامية واللغوية . الأمر الذي جعلهم يأخذون ببعض النصوص دون بعض، أو يأخذون بالمتشابهات، وينسون المحكمات، أو يأخذون بالجزئيات ويغفلون القواعد الكلية، أو يفهمون بعض النصوص فهما سطحيا سريعا، إلى غير ذلك من الأمور اللازمة لمن يتصدر للفتوى في هذه الأمور الخطيرة، دون أهلية كافية.

فالإخلاص وحده لا يكفي، ما لم يسنده فقه عميق بشريعة الله وأحكامه، وإلا وقع صاحبه فيما وقع فيه الخوارج من قبل، الذين صحت الأحاديث في ذمهم من عشرة أوجه، كما قال الإمام أحمد. مع شدة حرصهم على العقيدة والتنسك.
ولهذا كان أئمة السلف يوصون بطلب العلم قبل التعبد والجهاد، حتى لا ينحرف عن طريق الله من حيث لا يدري.
وقد قال الحسن البصري: العامل على غير علم كالسالك على غير طريق، والعامل على غير علم، ما يفسد أكثر مما يصلح، فاطلبوا العلم طلبا لا يضر بالعبادة، واطلبوا العبادة طلبا لا يضر بالعلم، فإن قوما طلبوا العبادة وتركوا العلم، حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا. .
ومن خلال ماتقدم فإننا رأينا من الواجب علينا أن نبين مجموعة من القواعد يعتمد عليها في نفي الكفر عن المسلمين:
القاعدة الأولى :
أن الإنسان يدخل الإسلام بالشهادتين:
شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فمن أقر بالشهادتين بلسانه فقد دخل في الإسلام، وأجريت عليه أحكام المسلمين، وإن كان كافرا بقلبه، لأنا أمرنا أن نحكم بالظاهر، وأن نكل إلى الله السرائر. والدليل على ذلك: حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما عند البخاري وغيره: أنه قتل رجلا شهر عليه السيف فقال: (لا إله إلا الله) فأنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم أشد الإنكار، وقال: أقتلته بعدما قال: (لا إله إلا الله)؟ فقال: إنما قالها تعوذا من السيف؟ فقال: هلا شققت عن قلبه؟! وفي بعض الروايات: كيف لك بـ (لا إله إلا الله) يوم القيامة؟
والقاعدة الثانية:
من مات على التوحيد استوجب الجنة:
أن من مات على التوحيد (أي على: لا إله إلا الله) استحق عند الله أمرين:
الأول: النجاة من الخلود في النار، وإن اقترف من المعاصي ما اقترف، سواء منها ما يتعلق بحقوق الله كالزنا، أو بحقوق العباد كالسرقة. وإن دخل بذنوبه النار فسيخرج منها لا محالة، مادام في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان.
الثاني: دخول الجنة لا محالة، وإن تأخر دخوله، فلم يدخلها مع السابقين: بسبب عذابه في النار لمعاص لم يتب منها، ولم تكفر عنه بسبب من الأسباب:
والدليل على ذلك أحاديث صحاح مشهورة في الصحيحين وغيرهما من دواوين السنة منها: عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من شهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من عمل).
القاعدة الثالثة:
"كبائر المعاصي تنقص الإيمان ولكنها لا تهدمه":
أي أن المعاصي والكبائر –وإن أصر عليها صاحبها ولم يتب منها- تخدش الإيمان وتنقصه، ولكنها لا تنقضه من أساسه، ولا تنفيه بالكلية. والدليل على ذلك أنها لو كانت تهدم الإيمان من أصله، وتخرج صاحبها إلى الكفر المطلق، لكانت المعصية والردة شيئا واحدا، وكان العاصي مرتدا، ووجب أن يعاقب عقوبة المرتد، ولم تتنوع عقوبات الزاني والسارق وقاطع الطريق وشارب الخمر والقاتل. وهذا مرفوض بالنص والإجماع.
وأكثر من ذلك ما رواه البخاري أيضا عن عمر بن الخطاب: أن رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كان اسمه عبدالله وكان يلقب (حمارا) وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتى به يوما، فأمر به فجلد. فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تلعنوه فوالله ما علمت أنه لا يحب الله ورسوله) وفي بعض روايات الحديث: (لقد علمت أنه يحب الله ورسوله) وفي بعضها (ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله).
القاعدة الرابعة:
"ما عدا الشرك تحت إمكان المغفرة":
وهي تأكيد للقاعدة السابقة –أن الذنب الذي لا يغفر هو الشرك بالله تعالى، وما عداه من الذنوب –صغرت أو كبرت- فهو في مشيئة الله تعالى، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقب عليه.
قال تعالى: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا ). القاعدة الخامسة:
انقسام الكفر الوارد في النصوص إلى أكبر وأصغر:
سالكفر في لغة القرآن والسنة، قد يراد به الكفر الأكبر، وهو الذي يخرج الإنسان من الملة، بالنسبة لأحكام الدنيا، ويوجب له الخلود في النار بالنسبة لأحكام الآخرة.
وقد يراد به الكفر الأصغر، وهو الذي يوجب لصاحبه الوعيد دون الخلود في النار، ولا ينقل صاحبه من ملة الإسلام. إنما يدمغه بالفسوق أو العصيان.
فالكفر بالمعنى الأول، هو الإنكار أو الجحود المتعمد لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أو بعض ما جاء به، مما علم من دينه بالضرورة.
والكفر بالمعنى الثاني، يشمل المعاصي التي يخالف بها أمر الله تعالى، أو يرتكب بها ما نهى عنه. وفيه جاءت أحاديث كثيرة، مثل: (من حلف بغير الله فقد كفر) أو (فقد أشرك)، (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، وإنما قلنا: إن الكفر الوارد في هذه النصوص وأمثالها ليس كفرا ناقلا عن الملة، لأدلة أخرى. فقد تقاتل الصحابة، ولم يكفر بعضهم بعضا بذلك.
والمنقول عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقينا: أنه لم يكفر من قاتله في معركة الجمل، أو صفين، وإنما اعتبرهم بغاة. وقد صح الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمار: تقتلك الفئة الباغية… كما صح الحديث في الخوارج أنهم (تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق) وقد قاتلهم علي رضي الله عنه ومن معه.
كما أثبت القرآن إيمان الطائفتين المقتتلتين (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا ) وكما أثبت الأخوة الدينية بينهم (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
أما الكفر بالمعنى الثاني – الكفر الأصغر- فيقابله: الشكر، فالإنسان إما شاكر للنعمة، أو كافر بها، غير قائم بحقها، وإن لم يكفر بمنعها. قال تعالى في وصف الإنسان: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا )؛ ولهذا لما نقل الحافظ ابن حجر عن القرطبي قوله: حيث جاء الكفر في لسان الشارع فهو جحد المعلوم من دين الإسلام بالضرورة الشرعية؛عقب عليه بقوله: وقد ورد الكفر في الشرع بمعنى جحد النعم، وترك شكر المنعم، والقيام بحقه، كما تقدم تقريره وهذا يدلنا على أن تقسيم الكفر إلى درجات متفاوتة بين أكبر وأصغر، تقسيم مأثور عن سلف الأمة.
ومما ينبغي التنبيه عليه أن مراتب الناس متفاوتة في امتثالهم لأمر الله تعالى، واجتنابهم لنهيه.
ولهذا تفاوتت درجات إيمانهم وقربهم من الله عز وجل، ومن هنا قرر سلف الأمة أن الإيمان يزيد وينقص، ودل على ذلك بالكتاب والسنة، فمن الخطأ الفاحش تصور الناس جميعا ملائكة أولى أجنحة، بلا أخطاء ولا خطايا، ناسين العنصر الطيني الذي خلقوا منه، والذي يشدهم إلى الأرض لا محالة.
قال تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ).

قال شيخنا سيدي أحمد التجاني رضي الله عنه في الكلام على هذه الآية:" ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا " الآية ، "يصحّ أنْ يُقَالَ هُمْ جميع الأمّة المكلّفون بأحكامه ، والقول في هذا أنّهم جميع الأمّة إذ ذلك الذي تقتضيه الأخبار فيما وَرَدَ في فضل الأمّة المحمّديّة ، فإنّه جميع من دخل تحت دائرة الشهادة بالتوحيد والرسالة ، فقد رُوِيَ أنّ القلم لما أمره الله بالكتابة كتبَ في أمم الرسل ، نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ، في كلّ أمّة كتب في اللوح مَن أطاع الله دخل الجنّة ومَن عصى الله منهم دخل النار ، أمَرَهُ الله بهذه الكتابة في أمم الرسل كلّها . ولمّا كتبَ أمّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم وأراد أن يكتب فيهم كما كتب في الأمم قبلهم فقال له ربّه : تأدّبْ يا قلم ، فارتعد القلم من هيبة الله وقال : رَبِّ ما أكتبُ ؟ قال : أكتُبْ " أمّة مذنبة ورَبٌّ غفورٌ " ، هكذا كتب في الأمّة المحمّديّة ، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم : « ما من نبيّ إلا أعطي دعوة معجلة يريد يعجلها فيما يشاء وأنا خبأت دعوتي شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي فهي نائلة إن شاء الله من لم يشرك بالله شيئا »والاحتمال الثاني في الآية أنّهم حَمَلَة القرآن فقط بدليل قوله تعالى :  فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ  الآية ، وعلى كلّ حال فَهُمْ مصطفون عند الله تعالى ، ظالمهم ومقتصدهم وسابقهم ، كلّهم عَمَّتْهُم الصفوة الإلهيّة ، قال سبحانه وتعالى في وعدهم "جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا" الخ الآية ، وقوله تعالى: "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ"  الآية ، يصحّ أن يقال فيهم هُمُ الصحابة فقط لاستكمالهم هذا المطلب العظيم من الآية ، ويصحّ أنْ يقال هُمْ جميع الأمّة ، والكلّ صحيح ، فإنّ الأمّة لا تخلو ممّن هذا وَصْفُهُ إلى الأبد . اهـ ما أملاه علينا رضي الله عنه من حفظه .
ومما لا شك فيه أن خطر التكفير يتعدى الأفراد إلى أن يصل إلى المسلمين جميعآ فمن هذه الأخطار أنه تقنيط للمسلمين من رحمة الله تعالى بل يعتبر هذا التكفير تشجيعا لهم على التكفير الحقيقي بمعنى أن الذي تصدر ضده مثل هذه الفتوى من فتاوى التكفير قد يؤزه الشيطان إلى القول " أنا الغريق فما خوفي من البلل" .
ومن أخطار ظاهرة التكفير على الإسلام و المسلمين فشو الجهل وخفاء العلم بالدين: عقيدة وشريعة، وتشويه سماحة الإسلام وعالميته، وكذلك اختلال الأمن العام للمسلمين وغيرهم: سواء في ذلك الأمن العقدي والفكري و الأمن الديني، والأمن الاجتماعي، والأمن السياسي، والعسكري، والأمن الأسري، والأمن النفسي، ولا سيما على العقل والدين والعرض والنفس والمال، وهي الضرورات الخمس التي أجمعت على حفظها شرائع الله قاطبة. وعانى كثير من المسلمين من ويلات هذه النهج الخاطئ فروع الآمنون واستحلت دمائهم واموالهم وانتشرت هذه الفتنة؛ وعم الاضطراب حتى تشوهت صورة الإسلام الصحيح في نظر غير المسلمين، واستغل هذا الأمر اعداء الإسلام حيث صوروا لغير المسلمين ان دين الإسلام دين ارهاب وقتل وسرقة ونهب، وسعي الى اتلاف ما أمكن اتلافه ومحاولة زعزعة الامن واخافة الآمنين وإيذائهم وقد بينا بما لايدع مجالا للشك كذب هؤلاء وبطلان ما ذهبوا إليه والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .